فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

احتج جماعة من الحنفية بهذه الآية على أن حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا ما لم ينسخ وهو ضعيف، ولو كان كذلك لكان حكم التوراة كحكم القرآن في وجوب طلب الحكم منه، لكن الشرع نهى عن النظر فيها.
بل المراد هذا الأمر الخاص وهو الرجم؛ لأنهم طلبوا الرخصة بالتحكيم. اهـ.
وقال الفخر:
قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} معطوف على قوله: {يُحَكّمُونَكَ} وقوله: {ذلك} إشارة إلى حكم الله الذي في التوراة، ويجوز أن يعود إلى التحكيم.
وقوله: {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} فيه وجوه:
الأول: أي وما هم بالمؤمنين بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها، والثاني: ما أولئك بالمؤمنين: إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدًا وهو خبر عن المستأنف لا عن الماضي.
الثالث: أنهم وإن طلبوا الحكم منك فما هم بمؤمنين بك ولا بمعتقدين في صحة حكمك، وذلك يدل على أنه لا إيمان لهم بشيء وأن كل مقصودهم تحصيل مصالح الدنيا فقط. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} عطف على {يُحَكّمُونَكَ} داخل في حكم التعجيب لأن التحكيم مع وجود ما فيه الحق المغني عن التحكيم، وإن كان محلًا للتعجب والاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب، و{ثُمَّ} للتراخي في الرتبة، وجوز الأجهوري كون الجملة مستأنفة غير داخلة في حكم التعجيب أي ثم هم يتولون أي عادتهم فيما إذا وضح لهم الحق أن يعرضوا ويتولوا، والأول أولى.
وقوله سبحانه: {مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد أن يحكموك تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد والتعجب، وقوله عز وجل: {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} تذييل مقرر لفحوى ما قبله، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم قصدًا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماءًا إلى علة الحكم مع الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة، أي: وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين بكتابهم لإعراضهم عنه المنبىء عن عدم الرضا القلبي به أولًا وعن حكمك الموافق له ثانيًا، أو بك وبه، وقيل: هذا إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبحكمه أصلًا.
وقيل: المعنى وما أولئك بالكاملين في الإيمان تهكمًا بهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله: {وَمَا أولئك بالمؤمنين} أي بحكمك أنه من عند الله.
وقال أبو علي: إن من طلب غير حكم الله من حيث لم يرض به فهو كافر؛ وهذه حالة اليهود. اهـ.

.قال البيضاوي:

{وَمَا أولئك بالمؤمنين} بكتابهم لإِعراضهم عنه أولًا وعما يوافقه ثانيًا، أو بك وبه. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} تذييلٌ مقرِّرٌ لفحوى ما قبله، ووضعُ اسمِ الإشارة موضعَ ضميرِهم للقصد إلى إحضارِهم في الذهن بما وُصفوا به من القبائح إيماءً إلى علة الحُكم وإلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكملَ تمييز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهَدة، و«ما» فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد درجتهم في العُتُوِّ والمكابرة أي وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين أي بكتابهم، لإعراضهم عنه أولًا، وعن حُكمِك الموافقِ له ثانيًا أو بهما، وقيل: وما أولئك بالكاملين في الإيمان تهكمًا بهم. اهـ.

.قال في روح البيان:

وفي الآية: ذم للظلم ومدح للعدل وقدح في الحرام والرشوة وفي الحديث: «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به» وفيه «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش» وأراد بالرائش الذي يمشي بينهما ذكر في «أدب القاضي» للخصاف: الرشوة على أربعة أوجه: إما أن يرشوه لأنه قد خوفه فيعطيه الرشوة ليدفع الخوف عن نفسه أو يرشوه ليسوي أمره بينه وبين السلطان أو يرشوه ليتقلد القضاء من السلطان أو يرشو القاضي ليقضي له.
ففي الوجه الأول لا يحل الأخذ لأن الكف عن التخويف كف عن الظلم وأنه واجب حقًا للشرع فلا يحل أخذه لذلك ويحل للمعطي الإعطاء لأنه جعل المال وقاية للنفس وهذا جائز موافق للشرع.
وفي الوجه الثاني أيضًا لا يحل الأخذ لأن القيام بأمور المسلمين واجب بدون المال فلا يحل له الأخذ.
وفي الوجه الثالث: لا يحل له الأخذ والإعطاء وأما الرابع: فحرام الأخذ سواء كان القضاء بحق أو ظلم.
أما الظلم فلوجهين: أحدهما أنه رشوة، والثاني: أنه سبب للقضاء بالجور.
وأما الحق فلوجه واحد وهو أنه أخذ المال لإقامة الواجب.
وأما العطاء فإن كان بجور لا يجوز وإن كان بحق جاز، قال ابن مسعود- رضي الله عنه-: من شفع شفاعة يرد بها حقًا أو يدفع بها ظلمًا فأهدي له فقبل فهو سحت، وفي «نصاب الاحتساب» أن المحتسب أو القاضي إذا أهدي إليه ممن يعلم أنه يهدي لاحتياجه إلى القضاء والحسبة لا يقبل ولو قبل كان رشوة وأما ممن يعرف أنه يهدي للتودد والتحبب لا للقضاء والحسبة فلا بأس به وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسعون في قبول الهداية بينهم وهذا لأن الهدية كانت عادتهم وكانوا لا يلتمسون منهم شيئًا وإنما كانوا يهدون لأجل التودد والتحبب وكانوا يستوحشون برد هداياهم فلا يكون فيه معنى الرشوة فلهذا كانوا يقبلونها، قال قوم: إن صلات السلاطين تحل للغني والفقير إذا لم يتحقق أنها حرام وأما التبعة على المعطي قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قبل هدية المقوقس ملك الإسكندرية واستقرض من اليهود مع قول الله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 5) وأما حال السوق فمتى علمت أن الحرام هو الأكثر فلا تشتر إلا بعد التفتيش وإن كان كثيرًا وليس بالأكثر فلك السؤال ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه يشترون من الأسواق مع علمهم بأن فيهم أهل الربا والغصب والغلول.
قال الحدادي ومن السحت ثمن الخمر والخنزير والميتة وعسب الفحل وأجرة النائحة والمغنية والساحر وهدية الشفاعة ومهر البغي وحلوان الكاهن هكذا قال عمر وعلي وابن عباس- رضي الله عنهم- قالوا: والمال الذي يأخذه المغنى والقوال ونحوهما حكم ذلك أخف من الرشوة فإن صاحب المال أعطاه عن غير اختيار بغير عقد، قال ابن كيسان: سمعت الحسن يقول: إذا كان لك على رجل دين فأكلت في بيته فهو سحت.
فعليك أيها المؤمن المتقي بالاحتياط في أمورك حتى لا تقع في الشبهات بل في الحرام وإنما تحصل التصفية للقلب بأكل الغذاء الحلال. اهـ.

.قال سيد قطب:

يتناول هذا الدرس أخطر قضية من قضايا العقيدة الإسلامية، والمنهج الإسلامي. ونظام الحكم والحياة في الإسلام.. وهي القضية التي عولجت في سورتي آل عمران والنساء من قبل.. ولكنها هنا في هذه السورة تتخذ شكلًا محددًا مؤكدًا؛ يدل عليها النص بألفاظه وعباراته، لا بمفهومه وإيحائه..
إنها قضية الحكم والشريعة والتقاضي- ومن ورائها قضية الألوهية والتوحيد والايمان- والقضية في جوهرها تتلخص في الإجابة على هذا السؤال:
أيكون الحكم والشريعة والتقاضي حسب مواثيق الله وعقوده وشرائعه التي استحفظ عليها أصحاب الديانات السماوية واحدة بعد الأخرى؛ وكتبها على الرسل، وعلى من يتولون الأمر بعدهم ليسيروا على هداهم؟ أم يكون ذلك كله للأهواء المتقلبة، والمصالح التي لا ترجع الى أصل ثابت من شرع الله، والعرف الذي يصطلح عليه جيل أو أجيال؟ وبتعبير آخر: أتكون الألوهية والربوبية والقوامة لله في الأرض وفي حياة الناس؟ أم تكون كلها أو بعضها لأحد من خلقه يشرع للناس ما لم يأذن به الله؟
الله سبحانه يقول: إنه هو الله لا إله إلا هو. وإن شرائعه التي سنها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له، وعاهدهم عليها وعلى القيام بها؛ هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض، وهي التي يجب أن يتحاكم، إليها الناس وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام..
والله سبحانه يقول: إنه لا هوادة في هذا الأمر، ولا ترخص في شيء منه، ولا انحراف عن جانب ولو صغير. وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل، أو لما اصطلح عليه قبيل، مما لم يأذن به الله في قليل ولا كثير!
والله سبحانه يقول: إن المسألة- في هذا كله- مسألة إيمان أو كفر؛ أو إسلام أو جاهلية؛ وشرع أو هوى. وإنه لا وسط في هذا الأمر ولا هدنة ولا صلح! فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله- لا يخرمون منه حرفًا ولا يبدلون منه شيئًا- والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله. وأنه إما أن يكون الحكام قائمين على شريعة الله كاملة فهم في نطاق الإيمان. وإما أن يكونوا قائمين على شريعة أخرى مما لم يإذن به الله، فهم الكافرون الظالمون الفاسقون. وأن الناس إما أن يقبلوا من الحكام والقضاة حكم الله وقضاءه في أمورهم فهم مؤمنون.. وإلا فما هم بالمؤمنين.. ولا وسط بين هذا الطريق وذاك؛ ولا حجة ولا معذرة، ولا احتجاج بمصلحة. فالله رب الناس يعلم ما يصلح للناس؛ ويضع شرائعه لتحقيق مصالح الناس الحقيقية. وليس أحسن من حكمه وشريعته حكم أو شريعة.
وليس لأحد من عباده أن يقول: إنني أرفض شريعة الله، أو إنني أبصر بمصلحة الخلق من الله.. فإن قالها- بلسانه أو بفعله- فقد خرج من نطاق الإيمان..
هذه هي القضية الخطيرة الكبيرة التي يعالجها هذا الدرس في نصوص تقريرية صريحة.. ذلك إلى جانب ما يصوره من حال اليهود في المدينة، ومناوراتهم ومؤامراتهم مع المنافقين: {من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم}. وما يوجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم لمواجهة هذا الكيد الذي لم تكف عنه يهود، منذ أن قامت للإسلام دولة في المدينة..
والسياق القرآني في هذا الدرس يقرر أولًا: توافي الديانات التي جاءت من عند الله كلها على تحتيم الحكم بما أنزله الله؛ وإقامة الحياة كلها على شريعة الله؛ وجعل هذا الأمر مفرق الطريق بين الإيمان والكفر؛ وبين الإسلام والجاهلية؛ وبين الشرع والهوى.. فالتوراة أنزلها الله فيها هدى ونور: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء}.. {وعندهم التوارة فيها حكم الله}.. {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس...} إلخ.. والإنجيل آتاه الله عيسى بن مريم {مصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه}.. والقرآن أنزله الله على رسوله {بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه} وقال له: {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق}.. {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.. {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}.. {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.. {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون}.. وكذلك تتوافى الديانات كلها على هذا الأمر، ويتعين حد الإيمان وشرط الإسلام، سواء للمحكومين أو للحكام.. والمناط هو الحكم بما أنزل الله من الحكام، وقبول هذا الحكم من المحكومين، وعدم ابتغاء غيره من الشرائع والأحكام..
والمسألة في هذا الوضع خطيرة؛ والتشدد فيها على هذا النحو يستند إلى أسباب لابد خطيرة كذلك. فما هي يا ترى هذه الأسباب؟ إننا نحاول أن نتلمسها سواء في هذه النصوص أو في السياق القرآني كله، فنجدها واضحة بارزة..
إن الاعتبار الأول في هذه القضية هو أنها قضية الإقرار بألوهية الله وربوبيته وقوامته على البشر- بلا شريك- أو رفض هذا الإقرار.. ومن هنا هي قضية كفر أو إيمان، وجاهلية أو إسلام.